محمد دلومي كاتب صحفي
تتجاوز الاحداث جامعة الدول العربية لدرجة أن هذه الحاضنة التي تجمع العرب صارت تعجز حتى على بلورة تنديد يحفظ ما بقي من ماء وجه العرب، ولقد كشفت الحرب الأخيرة على غزة أن هذا الفضاء العربي قد تجاوزه الزمن و صار رهينة الأهواء والمصالح الضيقة، ولن نكون مبالغين إن قلنا أن الجامعة صارت بشكل أو بآخر تخدم أطرافا أجنبية بل وثقلا على الشعوب العربية التي لم يعد اجتماع جامعتهم يثير أي اهتمام بل صار محل تنكيت وسخرية خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي .
ورغم أن هذه الهيأة أقدم من الأمم المتحدة والكثير من الهيآت الدولية، إلا أنها عجزت عن بلورت أفكار ترقى بمستوى طموحات شعوب المنطقة وتاريخ وحضارة الامة العربية، ولعل النتائج التي يعشها العرب اليوم هي محصلة لبداية خاطئة للزعماء العرب الذين أطلقوا هذا المشروع، وبدأوا رهانهم على وحدة سياسية كأولوية رغم التناقضات الايديلوجية والسياسية والفكرية التي ما تزال تنحر البيت العربي إلى اليوم.
كما أن الفكرة بحد ذاتها لم تكن من أجل مصلحة عربية بل كانت خدمة للحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، ففكرة وعاء عربي يجمع العرب كانت فكرة بريطانية أطلقها وزير الخارجية البريطاني أنطوني إيدن في شهر ديسمبر 1941 خلال خطاب شهير له، وكان الخطاب مليئا بالحماسة وتوجيه العرب نحو وحدة عربية، إلا أن الهدف لم يكن وحدة العرب للدفاع عن مصالحهم بل هي توحيدهم واصطفافهم مع الحلفاء ضد المانيا النازية، فقد كان لزاما أن يتم توحيد العرب ضد المانيا النازية، فترك الدول العربية دون وحدة في هذه القضية قد يجعل من ألمانيا هتلر تنفرد بكل دولة على حدى سيما وأن هناك زعماء عرب كانوا متعاطفين مع ألمانيا على رأسهم الملك فاروق ملك مصر، كما أن شخصيات دينية أرسلت متطوعين للمشاركة جنبا إلى جنب مع الجيش الألماني، هذه المؤشرات كانت بالنسبة للحلفاء وعلى رأسهم بريطانيا مؤشر خطر على إمكانية تأثير العرب في ميزان هذه الحرب سيما وأن الكثير من الدول العربية كانت تحت الاستعمار الغربي ورأوا في ألمانيا النازية كمحرر لهم، سيما وأن ألمانيا في تلك الفترة لظروف كثيرة لم تكن دولة استعمارية مثل بريطانيا وفرنسا وهو ما حمس الشعوب والقادة في مساندة ألمانيا الحلفاء، في وسط هذه الظروف أطلق السير إيدن فكرة الجامعة العربية التي كان ظاهرها توحيد العرب وباطنها تجنيدهم خلف الحلفاء، وبدلا من محاولة بناء تعاون اقتصادي يمهد لوحدة سياسية بعد عقود.
بدأ العرب صعود السلم من الأعلى حيث كان الهدف بناء وحدة سياسية بدأت بشعارات وطنية رنانة لم تتحقق منذ أكثر من سبعين عاما ولن تتحقق في إطار هذه الهيأة التي لها وظيفة أخرى غير مصالح الأمة العربية، فمن يتابع تاريخ العرب داخل الجامعة يكتشف كيف بدأت بقوة التنديد والشجب في كل ما تعلق بالقضية الفلسطينية، وانتهت اليوم بالشلل التام والعجز حتى عن التنديد والشجب، بل وعرقلة قرارات تحمي الشعب الفلسطيني وتحمي حقه في الحياة الكريمة على أرضه في إطار جامعة الدول العربية التي صارت قممها الطارئة لا تزيد العرب سوى فرقة وتعمق الخلافات، و لعل أحداث غزة تستدعي التساؤل عن الدور الحقيقي لهذه الجامعة التي تحولت إلى آداة في يد مصر ودول الخليج، حتى أن بيانتها الختامية صارت معروفة قبل حتى أن تصدر، حتى أن رئيس حكومة إسرائيل بن يامين نتنياهو في خطاب له طلب من الزعماء العرب أن يصمتوا حين تعالت بعض الأصوات العربية تطالب بوقف اطلاق النار و وقف المجازر في حق الابرياء، بل وتحدث بثقة عن استمرار مسار التطبيع، وهنا وجب طرح أسئلة حول محل جامعة العرب من أعراب الاحداث وما الدور الذي تلعبه، بل وهل صارت شريكا في قطار التطبيع ؟.
قبل سنوات طرحت الجزائر بإلحاح فكرة إصلاح جذري في جامعة الدول العربية تماشيا مع التطورات الحاصلة في العالم سيما وأنها مع الاحداث العربية صارت شبه مشلولة، إلا أن اقتراحات الجزائر التي تم طرحها في عهد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة قوبلت بالرفض من قبل مصر و أغلب دول الخليج وبعض الدول العربية، الأمر لا يتعلق طبعا بخلل في مقتراحات الإصلاح ولكن الأهداف ظهرت اليوم وهو أن إصلاح جامعة الدول العربية قد يعطل المشاريع الغربية في العالم العربي، وحين يتم تسريب بيانات ختامية لقمم عربية لمصالح استخبارتية غربية قبل حتى صدور البيان، وتخصيص غرفة سرية لعناصر الموساد لمشاركة عناصره الزعماء العرب دون علمهم في قمة الرباط في بداية السبعينات، يدرك المرء مدى هشاشة هذه الهيأة التي لم تعد بحاجة إلى إصلاح بل إلى حل وتفكيك، وربما حان الوقت اليوم لانسحاب الدول العربية التي ما زالت تدافع على الامة رغم الضعف والوهن التي هي فيها وتأسيس فضاء عربي موازي جاد وبأفكار جديدة واستراتيجية بعيدة بعيدا عن وكر الجواسيس الذي يسمى جامعة دول عربية، فلا يمكن أن يندد العرب من خلال بيانهم الختامي بالاعتداءات الاسرائيلية وفي الوقت نفسه يبقون على جسور الود مع حكومة الاحتلال التي تمارس على الشعب الفلسطيني جرائم حرب وابادة تطهير عرقي باعتراف المنظمات الدولية المستقلة وحتى باعتراف شخصيات دولية ذات مصداقية لا غبار عليها، ولا يمكن اليوم صناعة قرار عربي مشترك بزعماء بعضهم يسعى جاهدا لتفكيك أي فكرة سديدة خدمة للأمة، بل خرج اليوم بعض الزعماء العرب من السرية في العلاقات مع إسرائيل إلى العلن، دون اكتراث بما لحق الشعب الفلسطيني من تهجير وتقتيل وتفقير على مر العقود، والمؤسف في ذلك أن حكومات عربية شاركت بقوة في تمييع القضية الفلسطينية، ولأن الامور وصلت إلى هذا الحد فإن الشعب الفلسطيني اليوم لم يعد في حاجة إلى مساعدات الحكومات العربية، لم يعد بحاجة إلى دواء ولا خبز ولا ماء، الشعب الفلسطيني ليس بحاجة إلى من يتبعه أذى الأشقاء، كل ما يريده الشعب الفلسطيني اليوم أن يخلوا بينه وبين قضيته دون أن يتدخل فيها العرب ولا جامعة دولهم العربية، وسيكتب التاريخ بأسطر من ذهب هذا الصنيع للحكام العرب، فكلما تناول العرب القضية الفلسطينية زادت مأساة فلسطين، لهذا اتركوا الشعب الفليسطيني وحده، فضياع فليسطين بدأ مع ميلاد جامعة عربية أكبر انجازتها للقضية الفليسطينية هو بيانات تنديد في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، لتتحول اليوم إلى مؤامرات ضد شعب يقف الكل ضده حتى أخوة الدم والدين واللغة في حدوده و بعيدا عن حدوده، واليوم وصلت الجامعة العربية إلى مرحلة الموت السريري وما على الاحرار من الأمة ستوى التعجيل بدفنها حتى قبل موتها.