فاس – رندة نبيل رفعت
في قلب مدينة فاس العتيقة، حيث تتشابك أزقة التاريخ مع حكايات العلم، يقف جامع القرويين شامخًا كشاهد على أعرق جامعات العالم وأقدمها. لم يكن مجرد مسجد للصلاة، بل كان أول جامعة في التاريخ تمنح إجازات علمية في الطب والفلك والفلسفة، وفقًا لليونسكو وموسوعة غينيس. قصة بنائه هي قصة امرأة حوَّلت ميراثها إلى إرث خالد: فاطمة الفهرية.


- البداية: هاجرت فاطمة مع أسرتها من القيروان إلى فاس، وبعد وفاة زوجها وإخوتها، ورثت ثروةً قررت أن تخلدها في بناء مسجد. اشترت أرضًا مرتفعةً سُميت لاحقًا “مرتفع القرويين” نسبةً إلى مهاجري القيروان.
- التفاني: صامت فاطمة طوال 18 عامًا حتى اكتمل بناء المسجد عام 859م، مُعلنةً بذلك ميلاد صرحٍ روحاني وعلمي. لم تكن وحدها؛ فقد شيدت شقيقتها مريم الفهرية جامع الأندلس المجاور، لتصبح فاس عاصمةً للعلم بفضل إرادتهما.
بدأ الجامع بمساحة صغيرة (4 بلاطات وصحن)، لكنه تحول تحت رعاية الدول المتعاقبة إلى معهد علمي ضخم:
- المرابطون (القرن 11): أضافوا المنبر الخشبي الذي لا يزال تحفةً فنيةً تُستخدم حتى اليوم، وحوَّلوا الصومعة القديمة إلى أقدم مئذنة مربعة في المغرب العربي.
- الموحدون (القرن 12): علَّقوا الثريا الكبرى التي تزهو بها قاعة الصلاة.
- المرينيون (القرن 13): وسعوا الأروقة وأضافوا 17 بابًا فخمًا، وأماكن الوضوء الرخامية التي تجمع بين الجمال والوظيفة.
تميز الجامع بتقنيات هندسية فريدة:
- نظام المياه: تتدفق مياه عين الوادي إلى سقاية مرمرية تقدم ماءً باردًا صيفًا ودافئًا شتاءً، مع نافورة تزيّن الصحن.
- التصميم: يلتقي الجناحان الشرقي والغربي في صحن واسط، بينما تنتشر الأقواس المنقوشة والأخشاب المزخرفة التي تعكس روعة الفن المغربي الأندلسي.
جامعة القرويين: حين كانت فاس “أكسفورد العالم الإسلامي”
بحلول القرن العاشر، أصبح الجامع مركزًا علميًا دوليًا يدرس فيه كبار العلماء:
- تخصصات ثورية: الطب، الفلك، الرياضيات، الفلسفة، وحتى علوم الموسيقى.
- شهادات معتمدة: كانت تُمنح “الإجازة” (أول شهادة جامعية في التاريخ) بعد امتحانات صارمة.
- أعلام تخرّجوا هنا: ابن خلدون (مؤسس علم الاجتماع)، الشريف الإدريسي (رسم أول خريطة للعالم)، وابن ميمون (فيلسوف اليهودية الأشهر).
- المكتبة العتيقة: تحوي مخطوطات نادرة مثل نسخة قرآنية من القرن التاسع، وكتاب “الأغاني” للأصفهاني.
إرث يتنفس حتى اليوم: لماذا ما زال القرويين فريدًا؟
- أقدم جامعة عاملة: ما تزال تدرّس العلوم الشرعية واللغوية، وتستقبل طلابًا من أفريقيا وأوروبا.
- رمز للتسامح: في عصر كانت أوروبا تغرق في ظلام العصور الوسطى، كان القرويين يضم طلابًا مسلمين ويهودًا ومسيحيين.
- إلهام عالمي: يُعتبر نموذجًا للتعليم المتكامل الذي يجمع بين الروحاني والعقلي، مثل الأزهر في مصر.
يقول المؤرخ الفرنسي جورج مارصي: “لو لم يُبنَ القرويين، لكانت أوروبا اليوم مجرد امتداد للجاهلية”. إنه ليس مجرد مبنى، بل فكرة خالدة: أن العلم رسالة إلهية، وأن المرأة قادرة على صنع حضارة. بعد 1165 عامًا، ما تزال أصوات المصلين تختلط بهمسات الدارسين، كأن فاطمة الفهرية تُذكرنا: “العطاء لا يموت”.
زيارة جامع القرويين ليست جولةً في الماضي، بل حوارًا مع مستقبلٍ يُبنى بالعلم والإيمان. وكما كتب الشاعر المغربي محمد بنيس: “هنا.. يولد النور من حجر”.